فصل: فصل نسخ القرأن بالسنة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مجموع فتاوى ابن تيمية **


 فصل

وأما المناكح فلا ريب أن مذهب أهل المدينة ـ في بطلان نكاح المحلل ونكاح الشغار ـ أتبع للسنة ممن لم يبطل ذلك من أهل العراق، فإنه قد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه ‏(‏لعن المحلل والمحلل له‏)‏، وثبت عن أصحابه كعمر وعثمان وعلي وابن مسعود وابن عمر وابن عباس‏:‏ أنهم نهوا عن التحليل؛ لم يعرف عن أحد منهم الرخصة في ذلك وهذا موافق لأصول أهل المدينة‏.‏ فإن من أصولهم أن القصود في العقود معتبرة، كما يجعلون الشرط المتقدم كالشرط المقارن، ويجعلون الشرط العرفي كالشرط اللفظي‏.‏

ولأجل هذه الأصول أبطلوا نكاح المحلل، وخلع اليمين الذي يفعل حيلة لفعل المحلوف عليه، وأبطلوا الحيل التي يستحل بها الربا وأمثال ذلك‏.‏ ومن نازعهم في ذلك من الكوفيين؛ ومن وافقهم ألغى النيات في هذه الأعمال، وجعل القصد الحسن كالقصد السيئ، وسوغ إظهار أعمال لا حقيقة لها ولا قصد بل هي نوع من النفاق والمكر‏.‏ كما قال أيوب السختياني‏:‏ يخادعون الله كما يخادعون الصبيان، لو أتوا الأمر على وجهه لكان أهون عليهم‏.‏

والبخاري قد أورد في صحيحه كتابا في الرد على أهل الحيل، وما زال سلف الأمة وأئمتها ينكرون على من فعل ذلك كما بسطناه في الكتاب المفرد‏.‏

ونكاح الشغار قد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من غير وجه النهي عنه، ولكن من صححه من الكوفيين رأى أنه لا محذور فيه إلا عدم إعلام المهر ـ والنكاح يصح بدون تسمية المهر ـ ولهذا كان المبطلون له لهم مأخذان‏:‏

أحدهما‏:‏ أن مأخذه جعل بضع كل واحدة مهر الأخرى فيلزم التشريك في البضع‏.‏ كما يقول ذلك الشافعي وكثير من أصحاب أحمد‏.‏ وهؤلاء منهم طائفة يبطلونه إلا أن يسمي مهرا‏;‏ لأنه مع تسميته انتفى التشريك في البضع‏.‏ ومنهم من لا يبطله إلا بقول‏:‏ وبضع كل واحدة مهر للأخرى‏;‏ لكونه إذا لم يقل ذلك لم يتعين جعل البضع مهرا‏.‏ ومنهم من يبطله مطلقا كما جاء عنه بذلك حديث مصرح به في السنن وهذه الأقوال الثلاثة في مذهب أحمد وغيره‏.‏

والمأخذ الثاني‏:‏ أن بطلانه لاشتراط عدم المهر‏.‏ وفرق بين السكوت عن تسمية المهر وبين اشتراط المهر‏;‏ فإن هذا النكاح من خصائص النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏ وعلى هذا فلو سمى المهر بما يعلمان تحريمه كخمر وخنزير بطل النكاح؛ كما يقول ذلك من يقوله من أصحاب مالك وهو أحد القولين في مذهب أحمد وهو أشبه بظاهر القرآن وأشبه بقياس الأصول‏.‏

وكذلك نكاح الحامل أو المعتدة من الزنا باطل في مذهب‏.‏ وهو أشبه بالآثار والقياس لئلا يختلط الماء الحلال بالحرام، وقد خالفه أبو حنيفة

فجوز العقد دون الوطء، والشافعي جوزهما، وأحمد وافقه وزاد عليه فلم

يجوز نكاح الزانية حتى تتوب لدلالة القرآن والأحاديث على تحريم نكاح

الزانية‏.‏ وأما من ادعى أن ذلك منسوخ وأن المراد به الوطء ففساد قوله

ظاهر من وجوه متعددة‏.‏

وكذلك مسألة تداخل العدتين من رجلين؛ كالتى تزوجت في عدتها؛ أوالتى وطئت بشبهة، فان مذهب مالك أن العدتين لا يتداخلان بل تعتد لكل واحد منهما، وهذا هو المأثور عن عمر وعلي رضي الله عنهما، وهو مذهب الشافعي وأحمد وأبو حنيفة قال بتداخلهما‏.‏

وكذلك مسألة إصابة الزوج الثاني؛ هل تهدم ما دون الثلاث‏؟‏ وهو الذي يطلق امرأته طلقة أو طلقتين ثم تتزوج من يصيبها ثم تعود إلى الأول، فإنها تعود على ما بقي عند مالك، وهو قول الأكابر من الصحابة كعمر بن الخطاب وأمثاله، وهو مذهب الشافعي وأحمد في المشهور عنه وإنما مالك قال‏:‏ لا تعود على ما بقي من ابن عمر وابن عباس وهو قول أبي حنيفة‏.‏

وكذلك في الإيلاء مذهب أهل المدينة وفقهاء الحديث وغيرهم أنه عند انقضاء أربعة أشهر يوقف إما أن يفي؛ وإما أن يطلق‏.‏ وهذا هو المأثور عن بضعة عشر من الصحابة، وقد دل عليه القرآن والأصول من غير وجه، وقول الكوفيين أن عزم الطلاق انقضاء العدة فاذا انقضت ولم يف طلقت‏.‏ وغاية ما يروى ذلك عن ابن مسعود إن صح عنه‏.‏

ومسألة الرجعة بالفعل كما إذا طلقها فهل يكون الوطء رجعة‏؟‏ فيه ثلاثة أقوال‏:‏

أحدها‏:‏ يكون رجعة كقول أبي حنيفة‏.‏

والثاني‏:‏ لا يكون كقول الشافعي‏.‏

والثالث‏:‏ يكون رجعة مع النية وهو المشهور عند مالك وهو أعدل الأقوال الثلاثة في مذهب أحمد‏.‏

 فصل

وأما العقوبات والأحكام فمذهب أهل المدينة أرجح من مذهب أهل الكوفة من وجوه‏:‏

أحدها‏:‏ أنهم يوجبون القود في القتل بالمثقل كما جاءت بذلك السنة وكما تدل عليه الأصول‏.‏ بل بالغ مالك حتى أنكر الخطأ شبه العمد، وخالفه غيره في ذلك لهجر الشبه، لكنه في الحقيقة نوع من الخطأ امتاز بمزيد حكم فليس هو قسما من الخطأ المذكور في القرآن‏.‏

ومن ذلك مسألة قتل المسلم بالكافر والذمي والحر بالعبد للناس فيه ثلاثة أقوال‏:‏ أحدها‏:‏ يقتل به بكل حال‏;‏ كقول أبي حنيفة وأصحابه‏.‏ والثاني‏:‏ لا يقتل به بحال كقول الشافعي وأحمد في أحد القولين‏.‏ والثالث‏:‏ لا يقتل به إلا في المحاربة؛ فإن القتل فيها حد لعموم المصلحة فلا تتعين فيه المكافأة بل يقتل فيه الحر وإن كان المقتول عبدا؛ والمسلم وإن كان المقتول ذميا‏.‏ وهذا قول أهل المدينة والقول الآخر لأحمد وهو أعدل الأقوال وفيه جمع بين الآثار المنقولة في هذا الباب أيضا‏.‏ ومذهب مالك في المحاربين وغيرهم إجراء الحكم على الردء والمباشر كما اتفق الناس على مثل ذلك في الجهاد‏.‏ ومن نازعه في هذا سلم أن المشتركين في القتل يجب عليهم القود فإنه متفق عليه من مذهب الأئمة‏.‏ كما قال عمر‏:‏ ‏(‏لو تمالأ أهل صنعاء لقتلتهم به‏)‏ فإن كانوا كلهم مباشرين فلا نزاع وإن كان بعضهم غير مباشر لكنه متسبب سببا يفضي إلى القتل غالبا ـ كالمكره وشاهد الزور إذا رجع والحاكم الجائر إذا رجع ـ فقد سلم له الجمهور على أن القود يجب على هؤلاء‏.‏ كما قال علي رضي الله عنه في الرجلين اللذين شهدا على رجل أنه سرق فقطع يده ثم رجعا وقالا‏:‏ أخطأنا قال‏:‏ ‏(‏لو أعلم أنكما تعمدتما لقطعت أيديكما‏)‏ فدل على قطع الأيدي باليد وعلى وجوب القود على شاهد الزور‏.‏ والكوفيون يخالفون في هذين وعمر بن الخطاب رضي الله عنه جعل رقبة المحاربين بينهم ومعلوم أن قول من جعل المتعاونين على الإثم والعدوان مشتركين في العقوبة أشبه بالكتاب والسنة لفظا ومعنى ممن لم يوجب العقوبة إلا على نفس المباشر‏.‏ ومن ذلك أهل المدينة يتبعون ما خطب به عمر بن الخطاب على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال‏:‏ ‏(‏الرجم في كتاب الله حق على كل من زنى من الرجال والنساء إذا أحصن وقامت البينة أو كان الحبل أو الاعتراف‏)‏‏.‏ كذلك يحدون في الخمر بما إذا وجد سكرانا أو تقيأ؛ أو وجدت منه الرائحة ولم يكن هناك شبهة وهذا هو المأثور عن النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين كعمر وعثمان وعلي‏.‏ وأبو حنيفة والشافعي لا يرون الحد إلا بإقرار أو بينة على الفعل وزعموا أن ذلك شبهة وعن أحمد روايتان‏.‏ ومعلوم أن الأول أشبه لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنة خلفائه الراشدين وهو حفظ لحدود الله تعالى التي أمر الله بحفظها والشبهة في هذا كالشبهة في البينة والإقرار الذي يحتمل الكذب والخطأ‏.‏

ومن ذلك أن أهل المدينة يرون ‏[‏العقوبات المالية‏]‏ مشروعة حيث مضت بها سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنة خلفائه الراشدين كما أن العقوبات البدنية مشروعة حيث مضت بها السنة، وقد أنكر العقوبات المالية من أنكرها من أهل الكوفة ومن اتبعهم وادعوا أنها منسوخة، ومن أين يأتون على نسخها بحجة‏؟‏ وهذا يفعلونه كثيرا إذا رأوا حديثا صحيحا يخالف قولهم‏.‏ وأما علماء أهل المدينة وعلماء الحديث فرأوا السنن والآثار قد جاءت بالعقوبات المالية كما جاءت بالعقوبات البدنية‏:‏ مثل كسر دنان الخمر؛ وشق ظروفها؛ وتحريق حانوت الخمار‏.‏ كما صنع موسى بالعجل، وصنع النبي صلى الله عليه وسلم بالأصنام، وكما أمر عليه السلام عبد الله بن عمرو بتحريق الثوبين المعصفرين، وكما أمرهم عليه السلام بكسر القدور التي فيها لحم الحمر ثم أذن لهم في غسلها، وكما ضعف القود على من سرق من غير الحرز، وفي حديث عبد الله بن عمر بن الخطاب غرم الضالة المكتومة وضعف ثمن دية الذمي المقتول عمدا‏.‏

وكذلك مذهبهم في ‏[‏العقود والديات‏]‏ من أصح المذاهب فمن ذلك دية الذمي فمن الناس من قال‏:‏ ديته كدية المسلم؛ كقول أبي حنيفة‏.‏ ومنهم من قال‏:‏ ديته ثلث دية المسلم؛ لأنه أقل ما قيل؛ كما قاله الشافعي‏.‏ والقول الثالث‏:‏ أن ديته نصف دية المسلم وهذا مذهب مالك وهو أصح الأقوال؛ لأن هذا هو المأثور عن النبي صلى الله عليه وسلم كما رواه أهل السنن‏:‏ أبو داود وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏

ومن ذلك العاقلة تحمل جميع الدية كما يقول الشافعي؛ أو تحمل المقدرات كدية الموضحة والأصابع فما فوقها كما يقوله أبو حنيفة؛ أو تحمل ما زاد على الثلث وهو مذهب مالك وهذا الثالث هو المأثور وهو مذهب أحمد، وفي الثلث قولان في مذهب مالك وأحمد‏.‏

ويذكر أنه تناظر مدني وكوفي فقال المدني للكوفي‏:‏ قد بورك لكم في الربع كما تقول‏:‏ يمسح ربع الرأس، ويعفى عن النجاسة المخففة عن ربع المحل، وكما تقولونه في غير ذلك‏.‏ فقال له الكوفي‏:‏ وأنتم بورك لكم في الثلث كما تقولون‏:‏ إذا نذر صدقة ماله أجزأه الثلث، وكما تقولون‏:‏ العاقلة تحمل ما فوق الثلث، وعقل المرأة كعقل الرجل إلى الثلث فإذا زادت كانت على النصف وأمثال ذلك‏.‏

وهذا صحيح؛ ولكن يقال للكوفي‏:‏ ليس في الربع أصل لا في كتاب الله ولا سنة رسوله‏.‏ وإنما قالوا‏:‏ الإنسان له أربع جوانب ويقال‏:‏ رأيت الإنسان إذا رأيت أحد جوانبه وهي أربعة فيقام الربع مقام الجميع‏.‏ وأما الثلث فله أصل في غير موضع من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه قد ثبت بالسنة الصحيحة واتفاق المسلمين أن المريض له أن يوصي بثلث ماله لا أكثر؛ كما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم سعد بن أبي وقاص لما عاده في حجة الوداع؛ وكما ثبت في الصحيح في الذي أعتق ستة مملوكين له عند موته فجزأهم النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة أجزاء فأعتق اثنين وأرق أربعة؛ وكما روي أنه قال لأبي لبابة‏:‏ ‏(‏يجزيك الثلث‏)‏ وكما في غير ذلك فأين هذا من هذا‏؟‏ وما في هذا الحديث يقول به أهل المدينة‏.‏

والقرعة فيها آية من كتاب الله وستة أحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم منها هذا الحديث‏.‏ ومنها قوله‏:‏ ‏(‏لو يعلم الناس ما في النداء والصف الأول ولم يجدوا إلا أن يستهموا عليه‏)‏، ومنها‏:‏ ‏(‏إذا أراد سفرا أقرع بين نسائه فأيتهن خرج سهمها خرج بها معه‏)‏، ومنها‏:‏ أن الأنصار كانوا يستهمون على المهاجرين لما هاجروا إليهم، ومنها في المتداعيين اللذين أمرهما النبي صلى الله عليه وسلم أن يستهما على اليمين حبا أم كرها، ومنها‏:‏ في اللذين اختصما في مواريث درست فقال لهما‏:‏ ‏(‏توخيا الحق واستهما وليحلل كل منكما صاحبه‏)‏‏.‏ والقرعة يقول بها أهل المدينة ومن وافقهم كالشافعي وأحمد وغيرهما، ومن خالفهم من الكوفيين لا يقول بها؛ بل نقل عن بعضهم أنه قال‏:‏ القرعة قمار وجعلوها من الميسر‏.‏

والفرق بين القرعة التي سنها رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين الميسر الذي حرمه ظاهر بين؛ فإن القرعة إنما تكون مع استواء الحقوق وعدم إمكان تعيين واحد وعلى نوعين‏:‏ أحدهما‏:‏ أن لا يكون المستحق معينا كالمشتركين إذا عدم المقسوم فيعين لكل واحد بالقرعة، وكالعبيد الذين جزأهم النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة أجزاء، وكالنساء اللاتي يريد السفر بواحدة منهن فهذا لا نزاع بين القائلين بالقرعة أنه يقرع فيه‏.‏ والثاني‏:‏ ما يكون المعين مستحقا في الباطن كقصة يونس، والمتداعيين، وكالقرعة فيما إذا أعتق واحدا بعينه ثم أنسيه، وفيما إذا طلق امرأة من نسائه ثم أنسيها أو مات‏:‏ أو نحو ذلك‏.‏ فهذه القرعة فيها نزاع وأحمد يجوز ذلك دون الشافعي‏.‏

 فصل

ومذهبهم في الأحكام أنهم يرجحون جانب أقوى المتداعيين ويجعلون

اليمين في جانبه فيقضون بالشاهد ويمين الطالب في الحقوق وفي

القسامة يبدأون بتحليف المدعين فان حلفوا خمسين يمينا استحقوا الدم،

والكوفيون يرون أنه لا يحلف الا المدعى عليه فلا يحلفون المدعى لا في قسامة ولا في غيرها ولا يقضون بشاهد ويمين ولا يرون اليمين على المدعى‏.‏

ومعلوم أن سنة النبي صلى الله عليه وسلم الصحيحة توافق مذهب

المدنيين، فإن حديث القسامة صحيح ثابت فيه وقد قال النبي صلى الله

عليه وسلم للأنصار‏:‏ ‏(‏تحلفون خمسين يمينا وتستحقون دم صاحبكم‏)‏‏.‏ وكان الشافعي ونحوه من أهل العراق إذا ناظروا علماء أهل المدينة ـ كأبي الزناد وغيره ـ في القسامة واحتج عليهما أهل المدينة بالسنة التي لا مندوحة لأحد عن قبولها ويقولون لهم أن السنة ووجوه الحق لتأتى على خلاف الرأي، فلا يجد المسلمون بدا من قبولها في كلام طويل مروي بإسناد‏.‏

وكذلك مسألة الحكم بشاهد ويمين فيها أحاديث في الصحيح والسنن كحديث ابن عباس الذي رواه مسلم، وكحديث أبي هريرة وغيره مما رواه أبو داود لما قال بعض العلماء نرى أن من حكم بشاهد ويمين نقض حكمه‏.‏ انتصر لهذه السنة العلماء كمالك والشافعي وأحمد بن حنبل وأبي عبيد وغيرهم‏.‏ فمالك بحث فيها في موطأه بحثا لا يعد له نظير في الموطأ، والشافعي في الأم بحث فيها نحو عشر أوراق، وكذلك أبو عبيد في كتاب القضاء‏.‏

وليس مع الكوفيين إلا ما يروونه من قوله‏:‏ ‏(‏البينة على من ادعى واليمين على من أنكر‏)‏ وهذا اللفظ ليس في السنن وإن كان قد رواه بعض المصنفين في الأحاديث، ولكن في الصحيح حديث ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏لو يعطى الناس بدعواهم لادعى قوم دماء قوم وأموالهم ولكن اليمين على المدعى عليه‏)‏‏.‏

وهذا اللفظ إما أن يقال لا عموم فيه؛ بل اللام لتعريف المعهود وهو المدعى عليه؛ اذ ليس مع المدعي إلا مجرد الدعوى كما قال ‏(‏لو يعطى الناس بدعواهم‏.‏‏.‏‏)‏ ومن يحلف المدعي لا يحلفه مع مجرد الدعوى بل إنما يحلفه اذا قامت حجة يرجح بها جانبه كالشاهد في الحقوق، والإرث في القسامة‏.‏

إن قيل هو عام فالخاص يقضى على العام، واحتجاجهم بما في القرآن من ذكر الشاهدين والرجل والمرأتين ضعيف جدا، فإن هذا إنما هو مذكور في تحمل الشهادة دون الحكم بها، ولو كان في الحكم فالحكم بالشهادة المجردة لم يفتقر إلى ذلك، ومن حلف مع الشاهد لم يحكم بشهادة غير الشهادة المذكورة في القرآن، ثم الائمة متفقون على أنه يحكم بلا شهادة أصلا بل بالنكول أو الرد وأنه يحكم بشهادة النساء منفردات في مواضع فكيف يحكم مع أن هذا ليس بمخالف للقرآن‏؟‏ فكيف باليمين مع الشاهد‏؟‏ ثم مالك يوجب القود في القسامة ويقيم الحد على المرأة اذا التعن الرجل ولم تلتعن المرأة، والشافعي يقيم الحد ولا يقتل من القسامة، وأبو حنيفة يخالف في المسألتين، وأحمد يوافق على القود بالقسامة دون حد المرأة بل يحسبها اذا لم تلتعن ويخليها‏.‏ وظاهر الكتاب والسنة يوافق قول مالك، ومن ذلك أهل المدينة يرون قتل اللوطي الفاعل والمفعول به محصنين كانا أو غير محصنين، وهذا هو الذي دلت عليه السنة واتفاق الصحابة، وهو أحد القولين في مذهب الشافعي وأحمد، ومن قال لا قتل عليه من الكوفيين فلا سنة معه ولا أثر عن الصحابة‏.‏

وقد قال ربيعة للكوفي الذي ناظره‏:‏ أيجعل مالا يحل بحال كما يباح بحال دون حال‏؟‏ وذكر الزهري‏:‏ أن السنة مضت بذلك‏.‏ ومن ذلك أن الدعوى في التهم كالسرقة والقتل يراعون فيها حال المتهم هل هو من أهل التهم ام ليس من أهل ذلك، ويرون عقوبة من ظهرت التهمة في حقه‏.‏ وقد ذكر ذلك من صنف في الأحكام السلطانية من أصحاب الشافعي وأحمد، ذكروا في عقوبة مثل هذا هل يعاقبه الوالي والقاضي‏؟‏ أم يعاقبه الوالي‏؟‏ قولان‏.‏

وكما يجب أن يعرف أن امر الله تعالى ورسوله متناول لكل من حكم بين الناس سواء كان واليا أو قاضيا أو غير ذلك فمن فرق بين هذا وهذا بما يتعلق بأمر الله ورسوله فقد غلط، وأما من فرق بينهما بما يتعلق بالولاية لكون هذا ولي على مثل ذلك دون هذا فهذا متوجه‏.‏ وهذا كما يوجد في كثير من خطاب بعض أتباع الكوفيين وفى تصانيفهم، اذا احتج عليهم محتج بمن قتله النبي صلى الله عليه وسلم أو أمر بقتله ـ كقتله اليهودى الذي رض رأس الجارية، وكإهداره لدم السابة التى سبته وكانت معاهدة، وكأمره بقتل اللوطي، ونحو ذلك ـ قالوا‏:‏ هذا يعمله سياسة‏.‏ فيقال لهم‏:‏ هذه السياسة إن قتلهم هي مشروعة لنا، فهي حق، وهي سياسة شرعية‏.‏ وإن قلتم‏:‏ ليست مشروعة لنا، فهذه مخالفة للسنه‏.‏

ثم قول القائل بعد هذا سياسة إما أن يريد أن الناس يساسون بشريعة الاسلام‏؟‏ أم هذه السياسة من غير شريعة الاسلام‏؟‏ فإن قيل بالأول فذلك من الدين، وإن قيل بالثاني فهو الخطأ‏.‏ ولكن منشأ هذا الخطأ أن مذهب الكوفيين فيه تقصير عن معرفة سياسة رسول الله صلى الله عليه وسلم وسياسة خلفائه الراشدين‏.‏ وقد ثبت في الصحيح عنه أنه قال‏:‏ ‏(‏أن بني اسرائيل كانت تسوسهم الأنبياء، كلما مات نبي قام نبي، وأنه لا نبي بعدي، وسيكون خلفاء يكثرون‏)‏ قالوا‏:‏ فما تأمرنا‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏أوفوا بيعة الأول

فالأول، وأعطوهم حقهم فإن الله سائلهم عما استرعاهم‏)‏‏.‏

فلما صارت الخلافة في ولد العباس، واحتاجوا إلى سياسة الناس، وتقلد لهم القضاء من تقلده من فقهاء العراق ولم يكن ما معهم من العلم كافيا في السياسة العادلة، احتاجوا حينئذ إلى وضع ولاية المظالم، وجعلوا ولاية حرب غير ولاية شرع، وتعاظم الأمر في كثير من أمصار المسلمين، حتى صار يقال‏:‏ الشرع والسياسة، وهذا يدعو خصمه إلى الشرع وهذا يدعو إلى السياسة، سوغ حاكما أن يحكم بالشرع والآخر بالسياسة، والسبب في ذلك أن الذين انتسبوا إلى الشرع قصروا في معرفة السنة‏.‏ فصارت أمور كثيرة اذا حكموا ضيعوا الحقوق، وعطلوا الحدود حتى تسفك الدماء؛ وتؤخذ الاموال؛ وتستباح المحرمات‏.‏

والذين انتسبوا إلى السياسة صاروا يسوسون بنوع من الرأى من غير اعتصام بالكتاب والسنة، وخيرهم الذي يحكم بلا هوى وتحرى العدل، وكثير منهم يحكمون بالهوى؛ ويحابون القوي ومن يرشوهم ونحو ذلك‏.‏

وكذلك كانت الأمصار التى ظهر فيها مذهب أهل المدينة، يكون فيها من الحكم بالعدل ما ليس في غيرها، من جعل صاحب الحرب متبعا لصاحب الكتاب، مالا يكون في الأمصار التى ظهر فيها مذهب أهل العراق ومن اتبعهم؛ حيث يكون في هذه والي الحرب غير متبع لصاحب العلم‏.‏ وقد قال الله تعالى في كتابه‏:‏ ‏{‏لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الاية ‏[‏الحديد‏:‏ 25‏]‏ فقوام الدين بكتاب يهدي وسيف ينصر، وكفى بربك هاديا ونصيرا‏.‏

ودين الاسلام أن يكون السيف تابعا للكتاب، فاذا ظهر العلم بالكتاب والسنة وكان السيف تابعا لذلك كان أمر الاسلام قائما، وأهل المدينة أولى الأمصار بمثل ذلك‏.‏ أما على عهد الخلفاء الراشدين فكان الأمر كذلك، وأما بعدهم فهم في ذلك أرجح من غيرهم‏.‏

وأما اذا كان العلم بالكتاب فيه تقصير، وكان السيف تارة يوافق الكتاب وتارة يخالفه، كان دين من هو كذلك بحسب ذلك، وهذه الأمور من اهتدى إليها وإلى أمثالها تبين له أن أصول أهل المدينة أصح من أصول أهل المشرق بما لا نسبة بينهما‏.‏

ومن ذلك أن القتال في الفتنة الكبرى كان الصحابة فيها ثلاث فرق فرقة قاتلت من هذه الناحية؛ وفرقة قاتلت من هذه الناحية؛ وفرقة قعدت‏.‏ والفقهاء اليوم على قولين‏:‏ منهم من يرى القتال من ناحية علي مثل أكثر المصنفين لقتال البغاة، ومنهم من يرى الإمساك وهو المشهور من قول أهل المدينة وأهل الحديث‏.‏ والأحاديث الثابتة الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم في أمر هذه الفتنة توافق قول هؤلاء، ولهذا كان المصنفون

لعقائد أهل السنة والجماعة يذكرون فيه ترك القتال في الفتنة؛ والإمساك

عما شجر بين الصحابة‏.‏

ثم إن أهل المدينة يرون قتال من خرج عن الشريعة كالحرورية وغيرهم، ويفرقون بين هذا وبين القتال في الفتنة وهو مذهب فقهاء الحديث، وهذا هو الموافق لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنة خلفائه الراشدين، فإنه قد ثبت عنه الحديث في الخوارج من عشرة أوجه خرجها مسلم في صحيحه وخرج البخاري بعضها وقال فيه‏:‏ ‏(‏يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم؛ وصيامه مع صيامه؛ وقراءته مع قراءتهم،

يقرأون القران لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية، أينما لقيتموهم فاقتلوهم فإن في قتلهم أجرا عند الله لمن

قتلهم يوم القيامة‏)‏‏.‏

وقد ثبت اتفاق الصحابة على قتالهم، وقاتلهم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وذكر فيهم سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم المتضمنة لقتالهم، وفرح بقتلهم وسجد له شكرا لما رأى أباهم مقتولا وهو ذو الثدية‏.‏ بخلاف ما جرى يوم الجمل وصفين فإن عليا لم يفرح بذلك بل ظهر منه من التألم والندم ما ظهر، ولم يذكر عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك سنة؛ بل ذكر أنه قاتل باجتهاده‏.‏

فأهل المدينة اتبعوا في قتال المارقين من الشريعة وترك القتال في الفتنة، وعلى ذلك ائمة أهل الحديث، بخلاف من سوى بين قتال هؤلاء وهؤلاء؛ بل سوى بين قتال هؤلاء وقتال الصديق لمانعي الزكاة؛ فجعل جميع هؤلاء من باب البغاة، كما فعل ذلك من فعله من المصنفين في قتال

أهل البغي فإن هذا جمع بين ما فرق الله بينهما، وأهل المدينة والسنة

فرقوا بين ما فرق الله بينه واتبعوا النص الصحيح والقياس المستقيم

العادل‏.‏ فإن القياس الصحيح من العدل وهو التسوية بين المتماثلين

والتفريق بين المتخالفين‏.‏

وأهل المدينة أحق الناس باتباع النص الصحيح والقياس العادل، وهذا باب يطول استقصاؤه وقد ذكرنا من ذلك ما شاء الله من القواعد الكبار في القواعد الفقهية وغير ذلك، وإنما هذا جواب فتيا نبهنا فيه تنبيها على جمل يعرف بها بعض فضائل أهل المدينة النبوية، فإن معرفة هذا من الدين لاسيما إذا جهل الناس مقدار علمهم ودينهم، فبيان هذا يشبه بيان علم الصحابة ودينهم إذا جهل ذلك من جهله‏.‏ فكما أن بيان السنة وفضائل الصحابة وتقديمهم الصديق والفاروق من أعظم أمور الدين عند ظهور بدع الرافضة ونحوهم، فكذلك بيان السنة ومذاهب أهل المدينة وترجيح ذلك على غيرها من مذاهب أهل الأمصار أعظم أمور الدين عند ظهور بدع الجهال المتعبين للظن وما تهوى الأنفس والله أعلم‏.‏

والله تعالى يوفقنا وسائر إخواننا المؤمنين لما يحبه ويرضاه، والحمد لله

رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم

وقال‏:‏

 فصل

وأما ‏[‏نسخ القرآن بالسنة‏]‏ فهذا لا يجوزه الشافعي؛ ولا أحمد في المشهور عنه؛ ويجوزه في الرواية الأخرى‏.‏ وهو قول أصحاب أبي حنيفة وغيرهم وقد احتجوا على ذلك بأن الوصية للوالدين والأقربين نسخها قوله‏:‏ ‏(‏إن الله أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث‏)‏ وهذا غلط فإن ذلك إنما نسخه آية المواريث كما اتفق على ذلك السلف؛ فإنه لما قال بعد ذكر الفرائض‏:‏ ‏{‏تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 13‏]‏ ‏{‏وَمَن يَعْصِ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 14‏]‏ فلما ذكر أن الفرائض المقدرة حدوده ونهى عن تعديها‏:‏ كان في ذلك بيان أنه لا يجوز أن يزاد أحد على ما فرض الله له وهذا معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث‏)‏ وإلا فهذا الحديث وحده إنما رواه أبو داود ونحوه من أهل السنن ليس في الصحيحين ولو كان من أخبار الآحاد لم يجز أن يجعل مجرد خبر غير معلوم الصحة ناسخا للقرآن‏.‏ وبالجملة فلم يثبت أن شيئا من القرآن نسخ بسنة بلا قرآن وقد ذكروا من ذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّىَ يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 15‏]‏‏.‏

وقد ثبت في صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏خذوا عني؛ خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلا، البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام؛ والثيب بالثيب جلد مائة والرجم‏)‏‏.‏ وهذه الحجة ضعيفة لوجهين‏:‏ أحدهما‏:‏ أن هذا ليس من النسخ المتنازع فيه؛ فإن الله مد الحكم إلى غاية، والنبي صلى الله عليه وسلم بين تلك الغاية، لكن الغاية هنا مجهولة فصار هذا يقال‏:‏ إنه نسخ بخلاف الغاية البينة في نفس الخطاب كقوله‏:‏ ‏{‏ثُمَّ أَتِمُّواْ الصِّيَامَ إِلَى الَّليْلِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 187‏]‏؛ فإن هذا لا يسمى نسخا بلا ريب‏.‏ الوجه الثاني‏:‏ أن جلد الزاني ثابت بنص القرآن، وكذلك الرجم كان قد أنزل فيه قرآن يتلى ثم نسخ لفظه وبقي حكمه وهو قوله‏:‏ ‏(‏والشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما ألبتة نكالا من الله والله عزيز حكيم‏)‏ وقد ثبت الرجم بالسنة المتواترة وإجماع الصحابة‏.‏

وبهذا يحصل الجواب عما يدعى من نسخ قوله‏:‏ ‏{‏وَاللاَّتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِن نِّسَآئِكُمْ‏}‏ الآية؛ فإن هذا إن قدر أنه منسوخ فقد نسخه قرآن جاء بعده؛ ثم نسخ لفظه وبقي حكمه منقولا بالتواتر وليس هذا من موارد النزاع؛ فإن الشافعي وأحمد وسائر الأئمة يوجبون العمل بالسنة المتواترة المحكمة وإن تضمنت نسخا لبعض آي القرآن لكن يقولون‏:‏ إنما نسخ القرآن بالقرآن لا بمجرد السنة ويحتجون بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 106‏]‏ ويرون من تمام حرمة القرآن أن الله لم ينسخه إلا بقرآن‏.‏

 وقال شيخ الإسلام

تقي الدين أبو العباس أحمد بن تيمية ـ رضي الله عنه -

فصل

قال أبو الحسن الآمدي في إحكامه‏:‏ ‏[‏المسألة الثانية‏]‏‏:‏ اختلف الأصوليون في اشتمال اللغة على الأسماء المجازية؛ فنفاه الأستاذ أبو إسحاق ومن تابعه؛ ـ يعني أبا إسحاق الإسفراييني ـ وأثبته الباقون وهو الحق‏.‏ قلت الكلام في شيئين‏:‏ أحدهما‏:‏ في تحرير هذا النقل؛ والثاني في النظر في أدلة القولين‏.‏ أما الأول فيقال‏:‏ إن أراد بالباقين من الأصوليين كل من تكلم في أصول الفقه من السلف والخلف فليس الأمر كذلك؛ فإن الكلام في أصول الفقه وتقسيمها إلى‏:‏ الكتاب؛ والسنة؛ والإجماع؛ واجتهاد الرأي؛ والكلام في وجه دلالة الأدلة الشرعية على الأحكام‏:‏ أمر معروف من زمن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم والتابعين لهم بإحسان؛ ومن بعدهم من أئمة المسلمين وهم كانوا أقعد بهذا الفن وغيره من فنون العلم الدينية ممن بعدهم وقد كتب عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ إلى شريح‏:‏ اقض بما في كتاب الله فإن لم يكن فبما في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن لم يكن فبما اجتمع عليه الناس ـ وفي لفظ ـ فبما قضى به الصالحون؛ فإن لم تجد فإن شئت أن تجتهد رأيك‏.‏ وكذلك قال ابن مسعود وابن عباس وحديث معاذ من أشهر الأحاديث عند الأصوليين‏.‏

وإن كان مقصوده بالأصولي من يعرف ‏[‏أصول الفقه‏]‏ وهي أدلة الأحكام الشرعية على طريق الإجمال؛ بحيث يميز بين الدليل الشرعي وبين غيره؛ ويعرف مراتب الأدلة؛ فيقدم الراجح منها ـ وهذا هو موضوع أصول الفقه؛ فإن موضوعه معرفة الدليل الشرعي ومرتبته ـ فكل مجتهد في الإسلام فهو أصولي؛ إذ معرفة الدليل الشرعي ومرتبته بعض ما يعرفه المجتهد ولا يكفي في كونه مجتهدا أن يعرف جنس الأدلة بل لا بد أن يعرف أعيان الأدلة ومن عرف أعيانها وميز بين أعيان الأدلة الشرعية وبين غيرها كان بجنسها أعرف كمن يعرف أن يميز بين أشخاص الإنسان وغيرها فالتمييز بين نوعها لازم لذلك؛ إذ يمتنع تمييز الأشخاص بدون تمييز الأنواع‏.‏

وأيضا فالأصوليون يذكرون في مسائل أصول الفقه مذاهب المجتهدين كمالك؛ والشافعي؛ والأوزاعي؛ وأبي حنيفة؛ وأحمد بن حنبل وداود ومذهب أتباعهم بل هؤلاء ونحوهم هم أحق الناس بمعرفة أصول الفقه؛ إذ كانوا يعرفونها بأعيانها ويستعملون الأصول في الاستدلال على الأحكام بخلاف الذين يجردون الكلام في أصول مقدرة بعضها وجد وبعضها لا يوجد من غير معرفة أعيانها فإن هؤلاء لو كان ما يقولونه حقا فهو قليل المنفعة أو عديمها؛ إذ كان تكلما في أدلة مقدرة في الأذهان لا تحقق لها في الأعيان كمن يتكلم في الفقه فيما يقدره من أفعال العباد وهو لا يعرف حكم الأفعال المحققة منه فكيف وأكثر ما يتكلمون به من هذه المقدرات فهو كلام باطل‏.‏

وإذا كان اسم الأصوليين يتناول المجتهدين المشهورين المتبوعين كالأئمة الأربعة؛ والثوري؛ والأوزاعي والليث بن سعد؛ وإسحاق بن راهويه؛ وغيرهم‏.‏ وإن كان مقصود الأصوليين من جرد الكلام في أصول الفقه عن الأدلة المعينة كما فعله الشافعي وأحمد بن حنبل ومن بعدهما، وكما فعله عيسى بن أبان ونحوه، وكما فعله المصنفون في أصول الفقه من الفقهاء والمتكلمين‏:‏ فمعلوم أن أول من عرف أنه جرد الكلام في أصول الفقه هو الشافعي، وهو لم يقسم الكلام إلى حقيقة ومجاز، بل لا يعرف في كلامه مع كثرة استدلاله وتوسعه ومعرفته الأدلة الشرعية أنه سمى شيئا منه مجازا ولا ذكر في شيء من كتبه ذلك؛ لا في الرسالة ولا في غيرها‏.‏

وحينئذ فمن اعتقد أن المجتهدين المشهورين وغيرهم من أئمة الإسلام وعلماء السلف قسموا الكلام إلى حقيقة ومجاز كما فعله طائفة من المتأخرين‏:‏ كان ذلك من جهله وقلة معرفته بكلام أئمة الدين وسلف المسلمين‏.‏ كما قد يظن طائفة أخرى أن هذا مما أخذ من الكلام العربي توقيفا وأنهم قالوا‏:‏ هذا حقيقة وهذا مجاز، كما ظن ذلك طائفة من المتكلمين في أصول الفقه وكان هذا من جهلهم بكلام العرب كما سيأتي الكلام عليه إن شاء الله تعالى، وكما يظن بعضهم أن ما يوجد في كلام بعض المتأخرين كالرازي والآمدي وابن الحاجب‏:‏ هو مذهب الأئمة المشهورين وأتباعهم ولا يعرف ما ذكره أصحاب الشافعي ومالك وأبي حنيفة وأحمد وغيرهم من أصول الفقه الموافق لطريق أئمتهم فهذا أيضا من جهله وقلة علمه‏.‏

وإن قال الناقل عن كثير من الأصوليين‏:‏ مرادي بذلك أكثر المصنفين في أصول الفقه من أهل الكلام والرأي كالمعتزلة والأشعرية وأصحاب الأئمة الأربعة فإن أكثر هؤلاء قسموا الكلام إلى حقيقة ومجاز‏.‏ قيل له‏:‏ لا ريب أن هذا التقسيم موجود في كتب المعتزلة ومن أخذ عنهم وشابههم وأكثر هؤلاء ذكروا هذا التقسيم وأما من لم يكن كذلك فليس الأمر في حقه كذلك‏.‏

ثم يقال‏:‏ ليس في هؤلاء إمام من أئمة المسلمين الذين اشتغلوا بتلقي الأحكام من أدلة الشرع ولهذا لا يذكر أحد من هؤلاء في الكتب التي يحكي فيها أقوال المجتهدين ممن صنف كتابا وذكر فيه اختلاف المجتهدين المشتغلين بتلقي الأحكام عن الأدلة الشرعية وهم أكمل الناس معرفة بأصول الفقه وأحق الناس بالمعنى الممدوح من اسم الأصولي فليس من هؤلاء من قسم الكلام إلى الحقيقة والمجاز‏.‏

وإن أراد من عرف بهذا التقسيم من المتأخرين المعتزلة وغيرهم من أهل الكلام ومن سلك طريقتهم من ذلك من الفقهاء‏.‏

قيل له‏:‏ لا ريب أن أكثر هؤلاء قسموا هذا التقسيم لكن ليس فيهم إمام في فن من فنون الإسلام لا التفسير ولا الحديث ولا الفقه ولا اللغة ولا النحو بل أئمة النحاة أهل اللغة كالخليل وسيبويه والكسائي والفراء وأمثالهم وأبي عمرو بن العلاء وأبي زيد الأنصاري والأصمعي وأبي عمرو الشيباني وغيرهم‏:‏ لم يقسموا تقسيم هؤلاء‏.‏